يخلو عالمنا الواقعي اليومي من السحر والإثارة، لا تهبط رسائل من السماء تنبئنا بالمستقبل، لا تظهر التنانين لتنقذنا من الأشرار أو حتى تهددنا بالموت، ولا تصيب مياه النيل من يحاول تلويثه باللعنة. هكذا وجدت الفانتازيا لنفسها باباً سحرياً لتنفلت من قسوة الواقع وعاديته إلى مساحات أكثر رحابة ينطلق فيها الخيال الأدبي ليواجه صراعات وحروباً وقضايا لا مكان لها في الواقع المنطقي. وهذا هو أيضاً المتنفس الذي يروق للقراء الذين يبحثون عن قصص بعيدة عن مشاكلهم الواقعية، فيجدون ضالتهم في حروب الكواكب، ومواجهة الفضائيين، مجتمعات خيالية بالكامل لها تاريخ وطقوس، اكتشافها جزء من متعة كتابة هذا النوع الإبداعي.
كل هذه الوعود الفانتازية ينتظرها القارئ من عمل غارق في خيالات بعيدة، فرصة للانغماس في بُعد آخر لا وجود له.
في روايتها الأولى «لقد تم حظرك» صنفت الكاتبة نوارة نجم روايتها -كما كتب على الغلاف- «فانتازيا بوليسية» فتهيأ القارئ إلى سياقات شكلية وموضوعية معينة للحكاية المقبل على قراءتها، لكن هل الرواية فانتازية حقاً أم إنها غارقة في جحيم الواقعية؟
مجموعة من النساء هن بطلات «لقد تم حظرك» لا يجمعهن سوى جنسنهن الأنثوي، والرابط المكاني حيث يوجدن طيلة الرواية في مكان واحد، للوهلة الأولى ستتوقع أنهن مجتمعات في كوافير حريمي أو مركز تجميل أو كافيه أو عيادة أمراض نسائية أو مول تجاري، وربما الكيدز إيريا؛ كل هذه الاحتمالات لا تصيب، فنساء الرواية موجودات داخل مقر مباحث الإنترنت في حي العباسية بالقاهرة، ومن هنا لا نحتاج كثيراً من الوقت لتخمين طبيعة الحكايات التي سنواجهها مع هؤلاء النسوة. لا تقف الرواية على سرد حكاية كل امرأة على حدة فحسب، بل خلقت الكاتبة حادثة تربط مشكلات النساء من جهة وعلاقتهن بالمكان -مبنى مباحث الإنترنت- من جهة، واختارت للحادثة أن تكون جريمة قتل في وضح النهار أمام المبنى وعلى مرأى ومسمع الجميع، مشهد قتل مؤلم والمؤسف أنه معتاد، لا يختلف كثيراً عن مشهد قتل نيرة أشرف أمام جامعتها من عاشق مختل يطاردها، نفس النهاية التي تتوقعها كل بطلات الرواية لحكايتهن.
«هذا حالنا جميعاً، كلنا إما مقتولات وإما مفضوحات وإما أسيرات»
كل فتاة في الرواية هي ظل من ظلال نيرة أشرف، وكل رجل هو قاتلها المحتمل. شخصيات الرواية الرئيسية هم: سحر وناهد وسميرة ونشوى وأمها والمحامي والقتلة من الرجال الذين يلاحقون النساء، لكن لا يسعني إلا أن أضيف مبنى مباحث الإنترنت بوصفه بطلاً رئيساً، تتجمع بداخله الشخصيات في يوم واحد هو زمن أحداث الرواية، المبنى الذي تلجأ له النساء لتحتمي من ابتزاز الرجال وتهديداتهم، ومن سعار الرجال بالخارج، احتماء لا ينم عن الأمان المطلق، فالنساء في هذا المكان تخترق أجسادهن نظرات مهينة، مؤلمة، من رجال شرطة يرون أن كل النساء شرور وسيئات السمعة بالضرورة، أو كما يقول الضابط إن «جميع الفتيات اللاتي يأتين إلى هنا، كلهن منحرفات.. والمستقيمة لا تتعرض لمثل تلك الابتزازات».
لا يمكن لجملة كهذه يطلقها رجل من السلطة التي يلجأ لها النساء لأخذ حقوقهن إلا أن تكون كاشفة لوجهة نظر منظومة ذكورية سلطوية كاملة لا تلقي اللوم على الرجل المبتز/ المتحرش/ المغتصب، بل إنها تميل بالفطرة إلى لوم المرأة على سلوكها الأخلاقي الذي سمح للرجل أن يضعف ويتجاوز ويبتز. قد لا نرى صوتاً سردياً واحداً يقاطع صوت أمين الشرطة في سياقه، لكن على القارئ أن يتعجل في تلك الرواية، فالإجابة قد تأتي بين السطور في فصل آخر لاحق تحكي فيه ناهد عن عمها الذي زوّر إشاعات تشين أمها أخلاقياً لا لشيء غير منعها من أخذ حقها في الميراث.
لا تسن الحكومات القوانين وتؤسس مباحث شرطة الإنترنت لحماية النساء فقط، لكنها لحماية المواطنين جميعاً من أي تهديدات أو خطر يتعرضوا له عبر الإنترنت، لكن «سحر» البطلة التي نبدأ معها الرحلة إلى المبنى يستوقفها أن المبنى كله يعج بالنساء، تقول «في نهاية الردهة، وجدا طابوراً طويلاً، أغلبهم من المواطنات، وجلهم صغيرات السن، برفقة بعضهن نساء في منتصف العمر» توقعت سحر أن تجد على جدران المبنى حكماً ومواعظ للنساء «لينقذن البلاد من الغلاء بستر عوراتهن»، تلك الإشارات العابرة تضفي بعداً جوهرياً في صميم الحكاية، هذا المكان وكل فضاء خارجي هو مساحة تهديد ولوم وخطاب للنساء، وأن الكتابة عن أعراض النساء وعوراتهن على الجدران العامة والمواصلات هو الذي يفسر سبب غلبة الوجود النسائي على مبنى مباحث الإنترنت، بل وسبب العنف المجتمعي ضد الأنوثة.
«اسمك في عرف محيطك خائن، اسمها في عرف الناس عاهرة»
السرد بتعدد الأصوات هو الأداة الأكثر فاعلية في رواية مثل «لقد تم حظرك» وهو ما يحسب للكاتبة اختيارها فرد مساحات كبيرة لكل شخصية لينكشف صوتها في اللحظة الحالية داخل المبنى وعبر ماضيها البعيد الذي كوَّن الشخصية التي هي عليها الآن، والمشترك بين أغلب الشخصيات هو الرابط المعقد للغاية مع الأم.
نوارة نجم
تتبع الكاتبة أريج جمال كتابة كلويه ديلوم عن مفهوم «الأختية»[1] ليس باعتبارها نداً للأخوية ولكن كمحاولة لفهم سياقات تشكلها عبر العصور واستدعاؤها مرة أخرى كمفهوم قوي انطلق بقوة مع حركة «Me too». تقول كلويه «أن تتعامل امرأة مع امرأةٍ أخرى كأخت مسألة لا تحدث أبداً بشكل تلقائي. إنني أعد كل امرأةٍ أخرى أختي، سواء ولدت كذلك أم أصبحت كذلك. إن الأختية خيارٌ واعٍ، أسلوبٌ في الحياة. الذي يتطلب التعاطف والانفتاح والثقة. أي ما يُقابِل كل ما جرت تربيتنا عليه».
يمكننا تتبع خيوط الأختية التي تولدت ببطء وبفطرة ما بين بطلات الرواية، عندما تحكي روحية عن علاقتها برجال أسرتها وتحديداً أخوها تتذكر قسوته ورغبته في الانتقام من عهرها لحفظ شرفه، في المقابل تدعمها وتقف في وجهه زوجته سميرة، ولروحية ما يكفي من الوعي لتفهم سبب هذا الدعم «لم تكن سميرة تدافع عني بقدر ما كانت تدافع عن نفسها»، وهذا في حد ذاته جوهر الأختية، وتتجلى في أكمل صورها في مشهد خروج النساء مع بعضهن في نهاية الرواية كأنهن يشكلن حائط سد منيع أمام تجمهر الرجال.
تلك الأختية وجدت نفسها في الرواية تقف أمام أخوية تولدت أيضاً بأسرع من المتوقع ولسبب للأسف يسهل فهمه، يمكن اختزال لحظة شرارة الأخوية الأولى في اعتراف الرجل الذي قتل فتاة أخرى -بالخطأ- بدلاً من قريبته التي جاء لقتلها، فقال بنبرة غير نادمة «لكنها تستحق على كل حال، لقد غسلت عار رجل آخر»، وهذه أيضاً أخوية ما. بالعودة من جديد إلى كلويه ديلوم التي تطالب باستخدام المصطلحات الصحيحة لتوصيف الجرائم، فنحن هنا أمام جريمة قتل النساء féminicide، وهي كل جريمة قتل تتعرض لها النساء بسبب نوعها الجندري الأنثوي.
الوقوف على أي من الطرفين يستدعي رغبة في فهم الآخر والولوج إلى أفكاره، في واحد من فصول الرواية التي تروى بصوت هشام يكشف لنا عن دواخله، هذا السيكوباتي يرى أن النساء «يتمنعن وهن الراغبات. كلما هربت منك المرأة فاعلم أنها تهرب من انجذابها إليك. هذا أمر معقد» ثم يستكمل أن هذا لا يخص كل نساء العالم، بل المصريات هن المعقدات». وفي مشهد آخر يصف أمين الشرطة نقلاً عن الضابط أنه يستر على جميع الفتيات لأن «كلهن منحرفات.. المستقيمة لا تتعرض لمثل تلك الابتزازات».
تستدعي الحكايات الفرعية لشخصيات الرواية مصطلح العنف الأسري كحالة عنيفة ترتبط بالأسرة فتبدو أقل وحشية، تحدث في إطار الحماية، بينما الوصف الأدق العنف الأبوي، وهو الناتج عن الرجال في الأسرة ضد الزوجة والبنات والأولاد، وهو ما تستعرضه الرواية، كل أشكال العنف الجسدي والنفسي الذي تتعرض له النساء سواء خارجي أو داخلي.
في محاولة لتحليل شخصيات الرجال الممارسين للعنف وصل دونالد دوتون أن هؤلاء الراجل إما شخصية «ضد-اجتماعية» تمارس العنف داخل المنزل وخارجة وتميل للعدوانية والإجرام، أو شخصية سيكوباتية -مثل شخصية هشام في الرواية- تستمتع بممارسة العنف والسلطة عن قصد ومن نقطة اعتلال اجتماعي، والغلبة لشخصية الرجل الذي يستخدم العنف من منطلق العجز والإحباط[2]. لا يتحدث دوتون هنا عن رجال في مجتمع بعينه أو ينتمون لدين محدد، نحن هنا أمام مناقشة حقيقية لمشكلات الذكورة أمام الأنوثة، ومصادر تلك الرغبة الحامية في العنف والانتقام التي تنبع في أحيان كثيرة من ضعف حقيقي، أو ربما كما تقول حنة آرنت «السلطة والعنف لا يتطابقان، بل هما ضدان. يأتي العنف عندما تكون السلطة في خطر»[3].
هكذا يتجلى عبر وجهات النظر المختلفة كيف يرى الرجال النساء والعكس، ثمة اتهامات وكراهية واحتقار متبادل، والمظلة الكبرى التي تجمعنا هي المجتمع ذاته الذي نعيش فيه، يحكمه الرجال، ويصنفن النساء بالاحترام أو العهر، لا احتمالات لشيء آخر سوى تلك الأضداد، والغلبة دوماً لسوء سمعة النساء.
في سياق مختلف ومتواز لا يمكن اختزال الرؤية الفنية لرواية «لقد تم حظرك» بأنها انتصار للأختية، فالنساء في كتابة نوارة لسن كلهن متكاتفات ومحبات، ثمة كراهية ولوم ونظرة ذكورية تنبعث من بعضهن، أشدهن قسوة هن الأمهات.
«لكن الفتاة تصرخ وتتهم الأم أنها بلا قلب. جميعهم بلا قلب»
ليست الأم فحسب، بل كل امرأة بإمكانها أن تتحكم في جسد امرأة أخرى، مثل شخصية أميرة التي «تركت جسدها لوالدتها تتنقل بين الأطباء والسحرة»، أو شخصية الحماة التي تنبه ابنها أن العنف ضد زوجته «قد يضر بصحته» غير مكترثة بكرامة زوجة ابنها، والأشد قسوة في الرواية أم الفتاة التي لا يهمها ابتزاز الجار لابنتها ونشر صور فاضحة لها بقدر ما يشغلها، وتصر عليه، التأكيد على أن الصور والتسجيلات مفبركة «لا تأبه للابتزاز، ولا تشويه وجهها، ولا حتى قتلها، وإن ماتت فسوف تموت شريفة» فينفتح أمام إحدى الشخصيات سؤال مربك وصادق: لماذا ينجبن إن كن لسن أهلاً للإنجاب؟
يرتبط العنف بالذكورة، والأم بطبيعتها الأنثوية لا يستهويها العنف لكنها وفق التكيفات الاجتماعية قد تجد نفسها ذراعاً من أذرع هذا النظام السلطوي الذكوري العنيف، في البيت والخارج أحياناً، فتنظر للنساء مثلها بنظرة لا تنبع من تكوينها الفطري بل من النظرة التي ألصقت بعيونها، من كراهيتها لأنوثتها واحتقارها لجنسها، لأنها فُطرت كأغلب المجتمعات على أن المرأة مصدر كل إثم، وهي سموم أفكار لا تنبع حقيقة من النساء تجاه أنفسهن. وهو الأمر الذي يفسر الأصوات النسوية التي تظهر مؤخراً لتطالب بالنظر من جديد إلى مفهوم الأمومة المقدسة.
يمكنني تشبيه الفصل الأخير من رواية «لقد تم حظرك» باعتباره مواجهة بين الأختية والأخوية، ذلك أن كتلة من النساء تحركن سوياً بشكل جماعي وبدلن ملابسهن كي لا يعرفهن رجالهن، فكانت أجساد النساء حماية لبعضهن البعض، في تماهٍ مع الفكرة المجردة إلى أن أي تضامن نسائي يجلب للنساء الحماية ويعرض الرجال للتهديد فيقوضهن. المشهد الأخير ربما يرفع راية صغيرة، لا ترى ولكن تمسها عبر السطور، راية الأختية كقيمة وقوة.
سؤال الفانتازيا والواقعية في الرواية يدفعني من جديد لحسم تلك الأسئلة التي تجول في رأسي، هل اختارت الكاتبة أن يكون عالمها الفانتازي ملائكة وشياطين، أبيض وأسود؟ أم إننا حقاً أمام أصوات المجتمع الذي نعيشه؟ تتوالى فصول الرواية وصولاً لنهايتها فلا أجد سوى الواقع بقبحه وسخافته، ظلمه ودماؤه المهدورة، ونساؤه الباحثات عن الحماية ورجاله الذين يشهرون سكاكينهم علناً ويحيط بهن رجال يرغبون في الانتقام، وروحاً هائمة في فضاء فسيح تنتقم من كل ظالم.
ما من أحكام مطلقة إلى نهايتها في هذه الحياة، لكن هذه رؤية الواقع حقاً، ووجهة النظر التي تنظر بها الكاتبة إلى شخصياتها وعالمها الروائي، الساخرة والقاسية على التوازي، وهو ما يفسر تماشي روايتها مع السرد عبر تعدد الأصوات، والتعدد لا يعني السرد عبر شخصيات كثيرة ولكن عبر وجهات نظر مختلفة ومتناقضة.
مع تعاقب فصول الرواية وحكاياتها باتت تشغلني فكرة، هل صدرت أخيراً أعمال أدبية عما تتعرض له النساء من قهر وتهديدات دائمة بالقتل؟ هذا الشعور الدائم بالتهديد وعدم الأمان، تلك الرغبة في العيش بهدوء من دون الخوف من تشويه السمعة أو انتهاك الجسد، هل عبرت عنها الأعمال الإبداعية أم إنها فقط مخاوف حبيسة الصدور؟